في عصرٍ تتعاظم فيه التحديات الرقمية وتتعاظم معها المخاطر الأمنية والفكرية، برزت الحاجة الملحّة لتوحيد الجهود بين المؤسسات الحكومية والتقنية العالمية من أجل التصدي لظاهرة التطرف الرقمي، التي باتت تتخذ من وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات الرقمية منابر لبث السموم الفكرية والترويج لأجندات متطرفة تهدد الأمن والسلم المجتمعي.
وفي هذا السياق، تتجلى تجربة المركز العالمي ل مكافحة الفكر المتطرف “اعتدال” بالتعاون مع منصة “تليجرام” كنموذج فعال في رصد المحتوى المتطرف والعمل على تقويضه.
ففي الربع الأول من العام الجاري، تمكن مركز “اعتدال” من إزالة نحو 16,062,667 مادة متطرفة من منصة “تليجرام”، وذلك ضمن شراكة إستراتيجية وتعاون تقني وثيق يهدف إلى رصد وتتبع وحذف المحتوى الذي يحمل أفكارًا متطرفة أو يروج لها.
كما أُغلق بالتنسيق بين الطرفين 1,408 قناة استخدمتها تنظيمات متطرفة كمنابر إعلامية لنشر خطابات الكراهية والتحريض على العنف.
هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات جافة، بل تمثل إنجازًا ملموسًا في مسار طويل ومضنٍ من العمل المتواصل والجهود المتكاملة التي يبذلها “اعتدال” في سبيل مكافحة التطرف.
فالتحدي الذي يواجه المؤسسات المعنية بمكافحة التطرف لم يعد مقتصرًا على النطاق الميداني أو الواقعي، بل اتسع ليشمل الفضاء الرقمي الواسع، الذي أصبح ساحة رئيسية لتجنيد الأتباع، ونشر الخطاب المتطرف، وإدارة عمليات دعائية ذات طابع تدميري.
أرقام متصاعدة تعكس جدية الجهود
منذ انطلاق التعاون بين مركز “اعتدال” وتطبيق “تليجرام” في فبراير من عام 2022، وحتى مارس من عام 2025، تم حذف 176,758,457 مادة متطرفة، وإغلاق 16,201 قناة كانت تستخدم لنشر التطرف والتجنيد والتعبئة الفكرية التي تقود في كثير من الأحيان إلى أعمال عنف أو انضمام إلى جماعات إرهابية.
وتُظهر هذه الأرقام تصاعدًا واضحًا في حجم المحتوى المتطرف الذي يتم رصده وإزالته، وهو ما يعكس أمرين رئيسيين:
الأول هو فاعلية التقنيات المستخدمة في الرصد والتحليل.
والثاني هو تزايد حجم التحديات في مواجهة الفكر المتطرف الذي يسعى دائمًا لتطوير أدواته وأساليبه بما يتناسب مع طبيعة المنصات المستخدمة.
ويُعد هذا الإنجاز تتويجًا لجهود المركز في مكافحة الفكر المتطرف على الإنترنت، حيث لا يقتصر دور “اعتدال” على المتابعة الفنية فحسب، بل يتعداه إلى تحليل الأنماط السلوكية والمحتوى الخطابي الذي تنتجه تلك الجماعات، واستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة لتوقّع تحركاتها المقبلة.
أهمية التعاون بين الحكومات والتقنية
إن نجاح التعاون بين مركز “اعتدال” و”تليجرام” في تقويض المحتوى المتطرف، يُعدّ دليلاً قاطعًا على أن محاربة الفكر المتطرف تحتاج إلى تحالف عابر للحدود بين الأطراف المعنية.
فالمعركة ضد التطرف لم تعد مسؤولية الحكومات وحدها، بل أصبحت واجبًا مشتركًا يتطلب تنسيقًا دائمًا مع شركات التقنية العالمية التي تستضيف هذا المحتوى على منصاتها.
وقد أدركت المنصات التقنية، ومنها “تليجرام”، أن تجاهل مسؤوليتها في مواجهة هذه الظواهر قد يؤدي إلى تبعات خطيرة، ليس فقط على المستخدمين، بل أيضًا على سمعتها ومصداقيتها في دعم السلام العالمي.
من هنا، تُعتبر شراكة “اعتدال” مع “تليجرام” مثالاً عمليًا لما يمكن تحقيقه عندما تُوَظَّف الإمكانات التقنية في خدمة مكافحة الفكر المتطرف، وتُستثمر الخبرات الأمنية والتحليلية لصالح حماية المجتمعات من مخاطر التشدد والإرهاب.
البيئة الرقمية الآمنة هدف مشترك
إن هدف “اعتدال” الأساسي من هذه الشراكة لا يقتصر فقط على حذف المواد المتطرفة، بل يسعى إلى خلق بيئة إلكترونية أكثر أمنًا وخالية من التهديدات الفكرية التي قد تؤثر في فئة الشباب بشكل خاص، حيث يُعتبرون الأكثر تفاعلاً وتأثرًا بالمحتوى الرقمي.
وتنطلق هذه الجهود من قناعة راسخة بأن مكافحة الفكر المتطرف يجب أن تشمل مواجهة المحتوى في مهده قبل أن يتحوّل إلى تصرفات ميدانية تؤدي إلى عنف أو جرائم. ويُدرك القائمون على “اعتدال” أن الفكر المتطرف يبدأ بكلمة أو صورة أو مقطع فيديو، وقد يتطور إلى قناعة وسلوك إذا لم تتم مواجهته بحزم ووعي.
دور التقنية والذكاء الاصطناعي في المواجهة
لقد أتاح التقدّم التكنولوجي لاعتدال استخدام أدوات تحليلية متطورة، تمكّنه من رصد المحتوى المشبوه بشكل سريع وفعّال.
وتُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لتتبع اللغة المستخدمة، وتحليل الصور والمقاطع المرئية، والتعرف على الأنماط المتكررة في حسابات ومنشورات الجماعات المتطرفة.
ويُعد إدخال هذه الأدوات ضمن إستراتيجية مكافحة الفكر المتطرف نقلة نوعية في العمل الأمني الوقائي، حيث يتم التحرك قبل وقوع الخطر، مما يسهم في تقليل حالات التأثير الفكري أو التجنيد التي قد تتم عبر الإنترنت.
رسالة إلى العالم: السعودية في طليعة الدول المحاربة للتطرف
إن ما يحققه مركز “اعتدال” اليوم هو انعكاس لرؤية المملكة العربية السعودية في دعم الأمن العالمي، والسعي إلى بناء عالم خالٍ من التطرف والإرهاب.
ومن خلال هذه المبادرات والشراكات العالمية، ترسل المملكة رسالة واضحة مفادها أنها في طليعة الدول التي تعمل بجد على مكافحة الفكر المتطرف باستخدام أدوات حديثة واستراتيجيات شاملة.
ويؤكد هذا الدور الريادي على مكانة المملكة كدولة رائدة في استثمار التقنية لمحاربة الظواهر السلبية، وتوجيه طاقاتها في سبيل تعزيز الاستقرار الإقليمي والعالمي.
لا شك أن التجربة المشتركة بين مركز “اعتدال” وتليجرام تُعدّ إحدى أبرز المبادرات العالمية في مكافحة الفكر المتطرف عبر الفضاء الإلكتروني.
وهي تُظهر بوضوح أن التعاون بين المؤسسات الفكرية وشركات التقنية يمكن أن يؤدي إلى نتائج كبيرة في حماية المجتمعات، وإرساء قيم التعايش والسلام، وردع من يسعى إلى نشر الفوضى الفكرية والتخريب باسم الدين أو العقيدة.
ومع تزايد التحديات، تظل الحاجة ماسة لمزيد من التعاون والتكامل بين مختلف الأطراف الدولية من أجل تحصين المجتمعات، لا سيما الشباب، من الوقوع في شباك التطرف الرقمي.
إن مكافحة الفكر المتطرف ليست خيارًا، بل ضرورة وجودية تفرض نفسها على الجميع، والتجارب الناجحة مثل شراكة “اعتدال” و”تليجرام” يجب أن تكون نموذجًا يُحتذى به عالميًا.
المصدر: KSA News